الخميس مارس 07, 2024 12:23 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( كرَّم الله الإنسان بالعلم ))
مع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
أيها الأخوة الكرام، محور هذه الآيات أن آدم عليه السلام وذُرِّيّته مخلوقاتٌ متميِّزة قبلت حمل الأمانة، وحينما قبلت حمل الأمانة فُتِحت لها أبواب المعارف، فسيدنا آدم علَّمه الله، وحينما يعلّم الله الإنسان فإن هذا الشيء يصعب تصوره، الله عزَّ وجل علَّم النبي قال تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ﴾
( سورة النجم )
فضل علم النبي على علم أعلم علماء الأرض كفضل الله على خلقه، يتباهى الطالب أحياناً أنَّه تلميذ فلان، علَّمني فلان، علَّمني هذا الأستاذ الكبير، فكلَّما كان قدر المُعَلِّم كبيراً كان افتخار الطالب بمعلِّمه أكثر، فإذا كان المعلّم هو الله، فهذا الشيء يكاد لا يُصدَّق، لأن الله يعلّم الإنسان بطريقةٍ تعطيه كل شيء في أقلّ زمن، الطالب الآن يأتي ببعض الأحاديث الشريفة، يضبطها، ويشرحها، ويستنبط منها بعض الأحكام، ويقدِّم هذا البحث رسالة دكتوراه، تُناقش هذه الرسالة ويُعطى لقب دكتور، لماذا ؟ لأنه فهم بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين مقام النبي عليه الصلاة والسلام ؟ يا أيها الأمي حسبك رتبةٌ في العلم أن دانت لك العلماء
***
سبب جعل النبي عليه الصلاة والسلام أمياً:
أقف عند كلمة: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ (31) ﴾
كما أن الله علَّم آدم الأسماء علَّم النبي عليه الصلاة والسلام كل شيء، لماذا جعله أُمِّياً ؟ لأنه لو استقى من ثقافات عصره ثم جاءه وحيّ السماء لتداخلَ علم الأرض مع علم السماء، ولو كان الأمر كذلك لسأله أصحابه كل دقيقة، هل هذا الكلام من ثقافتك أم من وحي السماء ؟ فالله سبحانه وتعالى جعل وعاء النبي خالياً من كل ثقافةٍ أرضية، وجعله: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
( سورة النجم )
علّم الله آدم عليه السلام، كما أن الله تعالى علَّم نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام. ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ (31) ﴾
اختلف العلماء في هذه الكلمة، أولاً اختلفوا في آدم، لمَ سمِّي آدمُ آدماً ؟ قال: لأنه أُخِذَ من أديم الأرض ـ من تراب الأرض ـ وصنعه الله بيده، ونَفَخَ فيه من روحه، فهو المخلوق الأول. الإنسان مركّب من عقلٍ وشهوة:
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) ﴾
( سورة الإسراء )
الإنسان كما تعلمون رُكِّب من عقلٍ وشهوة، فيه قبضةٌ من تراب الأرض، وفيه نفخةٌ من روح الله، فإذا سَمَتْ نفخة الروح على تراب الأرض كان فوق الملائكة، وإذا سَمَتْ قبضة التراب على نفخة الله عزَّ وجل كان دون الحيوان، هو وحده يتذبذب بين أن يكون فوق الملائكة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) ﴾
( سورة البينة )
وبين أن يكون شَرَّ البرية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) ﴾
( سورة البينة )
الأنبياء يتعلَّمون بالوحيّ لكن المؤمنين يتعلَّمون بالقراءة والكتابة:
وضع الإنسان يتذبذب بين أن يكون فوق الملائكة المقرَّبين، وبين أن يكون في أسفل سافلين، فيه قبضةٌ من تراب الأرض ؛ يأكل ويشرب، ويشتهي النساء، ويشتهي أن يستريح، وأن يستمْتِع، هذا الخلود إلى الأرض، ويتمنى أن يعرف الله، وأن يكون مستقيماً على أمره، وأن يكون محبَّاً له، وأن ينشر الخير بين الخلائق، هذه نفخة الروح التي في كيانه، فيه نفخةٌ من روح الله، وفيه قبضةٌ من تراب الأرض، لذلك حينما قبِل الإنسان حمل الأمانة كان المخلوق الأول. ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72) ﴾
( سورة الأحزاب: آية " 72 " )
هو المخلوق الأول لمجرد أنه قبِل حمل الأمانة، لأنه المخلوق الأول سُخِّرت له السماوات والأرض جميعاً، في هذه الآيات إشاراتٌ لطيفة إلى أن مقام آدم هو المقام الأول، عرَّفه الله عزَّ وجل، إذاً آدم من أديم الأرض: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ (31) ﴾
تعليم الله عزَّ وجل متميّزٌ عن تعليم البشر، فحينما يعلّمك الله عزَّ وجل تغدو أعلم علماء الأرض، علَّم الله أنبياءه، علَّمهم بالوحيّ، أو كلَّمهم، أو قرَّبهم إليه، أما بنو البشر فيتعلَّمون من علم الأنبياء، نحن الأمية فينا صفة نقصٍ، لأنه لا سبيل لنا للتعلُّم إلا عن طريق علم الأنبياء، لا بدًّ أن نقرأ أحاديث رسول الله، لا بدَّ أن نقرأ القرآن الكريم، لا بدَّ أن نفهم تفسيره، فنحن نتعلَّم بالتعلُّم، يقول عليه الصلاة والسلام: (( إنما العلم بالتعلُّم ))
[الطبراني عن أبي الدرداء]
الأنبياء يتعلَّمون بالوحيّ، لكن المؤمنين يتعلَّمون بالقراءة والكتابة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: (( إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحِلم بالتحلّم ))
[الطبراني عن أبي الدرداء]
بعض التأويلات المحتملة للآية التالية:
قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
وقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ﴾
أما الأسماء التي وردت في هذه الآية فهناك اختلافٌ كبير بين المفسرين، يوجد عندنا اسم ومسمَّى، هذا منديل، فإن هذا مسمَّى، ومنديل اسم، ولا اسم بلا مسمّى، قال بعض المفسرين: " حينما خلق الله عز وجل المسميات كلَّها علَّم آدم أسماءها "، وكأن الله أراد من هذه الآية أن يبين أن لآدم طريقاً إلى الله يعلِّمه كلّ شيء، والإنسان ـ وهو ابن آدم ـ حينما يصدق في طلب شيء فالله عزَّ وجل يعطيه إيَّاه: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
وبعضهم قال: " علَّمه أسماء ذرِّيته جميعاً لأن كل ذرِّيته في ظهره " . وبعضهم قال: " علَّمه أسماء الملائكة ". وبعضهم قال: " علَّمه أسماء الله الحُسنى " ، فلك أن تختار من بين هذه التفسيرات ، إما أنه علَّمه أسماءه الحسنى وصفاته الفُضلى، أو علَّمه أسماء الملائكة، أو علَّمه أسماء ذرٍّيته جميعاً، أو علًّمه حقائق الكون، علَّمه المُسَمَّيات وأسماءها، هذه التأويلات المحتملة لهذه الكلمة: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان وجعله المخلوق الأول :
الملائكة مما أشفقوا ولم يحملوا الأمانة ؟
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72) ﴾
( سورة الأحزاب: آية " 72 " )
الملائكة مخلوقاتٌ عابدةٌ، منيبةٌ، متَّصلةٌ بالله عزَّ وجل، تُسبِّح الله دائماً، ولكنّها ليست مُكَلَّفة ـ ليس عندها تكليف ـ ليس عندها نجاح أو رسوب، فلاح أو سقوط، جنَّةٌ أو نار، مستقبلها مضمون لأنها لم تخاطر، لكن الإنسان قال: أنا لها، وحملها الإنسان، فالذي قَبِلَ المغامرة يفوق الذي أَشْفَقَ من هذه المغامرة فيما لو نجح، لذلك يتّضح من خلال هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان وجعله المخلوق الأول، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، بل إن العلماء يقولون: " المؤمن إذا عرف الله عزَّ وجل وأدَّى الأمانة التي أُنيطت به، وحقق الهدف الذي من أجله خُلِق فهو فوق الملائكة المقرَّبين ".
عند بعض العلماء بعض المقولات، الرسل من بني البشر أعظم من رسل الملائكة، والأولياء من بني البشر أعظم من أولياء الملائكة، ولكن إذا وازنَّا الملَك بمخلوقٍ شاردٍ عن الله عزَّ وجل فإن ذرَّةً من هذا المَلَك أفضل من مليار إنسان عاصٍ، أما حينما يرشد الإنسان، ويتَّصل بالله عزَّ وجل فهو فوق الملائكة المقرَّبين: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
مقام الإنسان يتذبذب بين أن يسبق الملائكة وبين أن يكون من أَحَط المخلوقات:
ماذا قالت الملائكة ؟ ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
إنَّ هذا المخلوق البشري إذا عرف الله وصل إلى مرتبةٍ لا تصل الملائكة إليها، مقامه يتذبذب بين أن يسبق الملائكة، وبين أن يكون من أَحَط المخلوقات، رجل خان جاره في زوجته أثناء سفره في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فبلغ النبي ذلك، وقد قتله كلبٌ، فقال عليه الصلاة والسلام: " خان صاحبه، وقتله الكلب، والكلب خيرٌ منه ".
شيء دقيق، أنت حينما تعرف الله، وتستقيم على أمره، وتسمو إليه فأنت في المرتبة الأولى من مخلوقات الأرض ؛ وحينما تخلد إلى الأرض وتتبع هواك وتُغلب فأنت دون كل المخلوقات، فهذه المرتبة تتلوّن وتتذبذب بين قمَّة المجد وبين حضيض السقوط، هكذا الإنسان إما أنه خير البرية، وإما أنه شَرُّ البرية، ومتاحٌ لك أن تكون من خير البرية، لأن هذه الشهوات التي غُلِبت بها رُسِمت لها قنواتٌ نظيفة تسري خلالها، فليس في الإسلام حِرْمان، ولكن في الإسلام انضباط، عملية ضبط، فأية شهوةٍ أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، بل إنني أقول لكم: إن استمتاع المؤمن بالحلال فيه متعةٌ وطمأنينةٌ وسعادةٌ تفوق بكثير متعة المنحرف العاصي بالحرام، شَتَّان بين الزواج والزنا، وشتَّان بين كسب المال الحلال وبين كسب المال الحرام، وشتَّان بين أن تعلو في الأرض بعملٍ صالح، أو بجريمةٍ فظيعة. الإنسان مخير ولأنه مخير فالنتائج متباينة:
أيها الأخوة الكرام، نحن أمام خيار مصيري، إما أن تكون المخلوق الأول، وإما أن يهبط الإنسان فيكون في أسفل سافلين، في الدرجة الدنيا: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (31) ﴾
أنتم يا ملائكتي الذين قلتم في أنفسكم: لعل هذا المخلوق يُفسِد، ويسفِكُ الدماء، ونحن نسبح الله عزَّ وجل، فقال الله عزَّ وجل: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الكمال في الجامعة لا أن ينجح كل الطُلاَّب، بل أن تأتي النتائج وفق المقدِّمات، حيث ينجح المتفوِّق، ويرسب الكسول، وهكذا الإنسان مخيّر، فإما أن تختار الحقيقة، وإما أن تختار الشهوة، إما أن تختار المصلحة، وإما أن تختار المبدأ، إما أن تختار الآخرة، وإما أن تختار الدنيا، أنت مخيّر، ولأنك مخيّر فالنتائج متباينة، إذا أَعْطَينا للطلاب حرية الاختيار في الدراسة أو عدمها ورسب مجموعة من الطلاب هذا لا يعني أن نغلق الجامعة، بل بالعكس نتابع افتتاح الجامعات ونقول: كلٌ يلقى نتائج عمله، فالطالب المجتهد يلقى نتائج عمله، والطالب الكسول يلقى نتائج عمله، أعطى الله عزَّ وجل الملائكة درساً لا يُنسَى، أنتم الذين قلتم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
هذا آدم، وقد ورد عن الرسول الكريم قوله: (( آدم ومن دونه تحت لوائي ولا فخر.))
[ابن مردويه عن أنس]
آدم ومن دونه تحت لواء محمد عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، استنبط بعض العلماء من هذا الحديث أن هذا النبي الكريم ـ أبو البشر ـ يأتي في مقامه بعد مقام محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؛ آدم ومن دونه. الإنسان لتميّزه بقبول حمل الأمانة استحق أن يُكشَف له الغطاء فيعلم من الله ما لم يعلم غيره من الله:
قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ (31) ﴾
ذكرت قبل قليل أنه لك أن تفهم الأسماء أنها أسماء ذريّته جميعاً، أو أسماء الملائكة كلَّهم، أو أسماء المُسميات جميعاً، إما أنه علَّمه حقائق الوجود، أو علَّمه أسماء الملائكة، أو علَّمه أسماء ذريّته، أو علَّمه أسماءه الحسنى، على كلٍ هذا الإنسان لتميّزه بقبول حمل الأمانة استحق أن يُكشَف له الغطاء، فيعلم من الله ما لم يعلم غيره من الله: ﴿ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (31) ﴾
هذا الذي خلقته وجعلته خليفتي في الأرض هل عندكم شيء من علمه ؟ ﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ (31) ﴾
ماذا تعرفون من هذه الأسماء ؟ وهذا ينقلنا إلى موضوعٍ دقيق، الله عزَّ وجل قد يعطي الأدنى ما يفوق الأعلى، سيدنا موسى نبيٌّ كريم سئِل: مـن أعلم من في الأرض ؟ فقال: أنا، فلفـت ربنا عزَّ وجل نظره إلى شيءٍ لم يكن في الحُسبان، أعطى الله سيدنا الخضِر سرَّ الأمر التكليفي، فلمَّا ترافق سيدنا موسى مع سيدنا الخضر اعترض عليه، وإذا بالخضر عليه السلام يعطيه حقائق الأمور ويعطيه حِكَم أفعال الله عزَّ وجل، فإذا كان الله تعالى قد خصَّ موسى بالأمر التكليفي فقد خصَّ الخضر عليه السلام بالأمر التكويني، بسرِّ الأمر التكويني. الله عزَّ وجل طليق الإرادة يعطي من هو أدنى منك شيئاً يفوقك به:
يعطي الله عزَّ وجل الأدنى ما يفوق به الأعلى، وكلفت نظرٍ قال هدهد سيدنا سليمان: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ (22) ﴾
( سورة النمل: آية " 22 " )
سيدنا سليمان الذي آتاه الله مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، سيدنا سليمان الذي سخَّر الله له الريح، سيدنا سليمان الذي علَّمه الله لغة الطير: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً (19) ﴾
( سورة النمل )
قال له الهدهد: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) ﴾
هذا درس، فلا تقل: أنا أعلم من في الأرض، لا تقل: أنا متفوق في كذا، الله يغيِّر في لحظة، الله عزَّ وجل طليق الإرادة، يعطي من هو أدنى منك شيئاً يفوقك به، قيل: إن الإمام أبا حنيفة رأى مرة طفلاً يمشي في الطريق وأمامه حفرة فقال له: احذر يا غلام أن تسقط، فقال له الغلام: بل احذر أنت يا إمام أن تسقط، إني إن سقطت سقطتُ وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالم.
كان سيدنا عبد الله بن الزبير في المدينة مع بعض الغلمان فمرَّ سيدنا عمر، تفرَّق الأولاد إلا عبد الله بن الزبير بقي واقفاً في مكانه، فقال له سيدنا عمر: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ فقال له: " أيها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك والطريق يسعني ويسعك " ، فدائماً لا تقل: أنا، هناك دروس بليغة جداً في الحياة. حجم علم الإنسان بحجم صدقه في طلب الحقيقة:
أيها الأخوة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ (32) ﴾
أي أنَّ هذا الذي اعترضتم عليه، ظننتم أنكم أفضل منه، هذا الذي توهَّمتم أنه سيسفك الدماء، ويُفسِد في الأرض علمه أعلى من علمكم، لكن هناك سؤال: إنك أنت الذي علَّمته، فأنت الذي ميزته علينا ؟ الجواب: أن علم الإنسان بحسب صدقه، فكلَّما كان أكثر صدقاً في طلب الحقيقة كان علمه من الله عزَّ وجل أعمق وأشمل، فحجم علم الإنسان بحجم صدقه في طلب الحقيقة، لذلك يُعَدُّ النبي عليه الصلاة والسلام أعلمنا بالله عزَّ وجل، قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم: (( إني أعلَمكم بالله وأشَدُّكم له خشية ))
[متفق عليه عن عائشة]
أي أن العلم متعلق بالصدق، فكلَّما كنت أكثر صدقاً في طلب الحقيقة، كلَّما كنت أكثر صدقاً في معرفة الله كلَّما كنت أكثر علماً، فيبدو أن هذا النبي الكريم أبو البشر ـ سيدنا آدم ـ كان طلبه للمعرفة عالياً جداً، فعلَّمه الله ما لم يعلِّم الملائكة. كلمة (لا أدري) نصف العلم:
حينما نفهم الآية فهماً ساذجاً أن الله علَّمه، ثم قال: ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ (31) ﴾
لا تعلمون، إذاً هو أفضل منكم، هذا الشيء بهذا الشكل غير مقبول، أما علمه الذي فاق به الملائكة بسبب محبَّته لله، وصدقه في طلب الحقيقة، وإقباله على الله، فهناك شيء منه، تجد أخّوين، أحدهما تابع دراسته حتى الدكتوراه، والآخر قنع بابتدائية، أو بإعدادية، والأب واحد، والأم واحدة، هذا اختيار، فيبدو أن هذا النبي العظيم أبو الأنبياء أراد أن يكون في أعلى مرتبة منحه الله إياها، فلمَّا اعترضت الملائكة قال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا(32)﴾
لنا هنا وقفة متأنّية، أخواننا الكرام كما قال الإمام الشافعي: " كلّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " ، والإنسان المتعلّم أو طالب العلم الشرعي يجب أن يكون متواضعاً جداً وأن يُجْري على لسانه كلمة لا أدري، لا أدري نصف العلم، جاء وفد من المغرب إلى المشرق معهم أسئلة عديدة جداً، فالتقوا الإمام مالك ـ إمام دار الهجرة ـ عرضوا عليه مجموعة أسئلة فأجاب عن ثلثها، وأما الأسئلة الباقية فقال عنها: لا أدري، قالوا: يا الله الإمام مالك إمام دار الهجرة لا يدري ؟! قال لهم: قولوا لأهل المغرب الإمام مالك لا يدري.
عوّد نفسك أن تقول عن شيء لا تعلمه: واللهِ لا أعلم، إن قلت: لا أعلم فأنت عالم، أما هذا الذي يعلم كل شيء فهو لا يعلم شيئاً إنه كذَّاب، عَوِّد تلاميذك، عود أخوانك كلمة لا أعلم طبيعية جداً، وأنت في مكانك العلي لا تستحي أن تقول: لا أعلم، لأنك إذا قلت ما لا تعلم فقد اقترفت إثماً مبيناً، وردت المعاصي في كتاب الله بشكل تصاعدي ؛ الفحشاء، والمنكر، والإثم، والعدوان، والشرك، والكفر، وأعلى معصية هي: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾
( سورة البقرة )
النبي عليه الصلاة والسلام على علوّ قدره وعِظَم شأنه لا يعلم إلا أن يُعلِّمه الله:
يقول الإمام الغزالي: " العوام لأن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ". وَطِّن نفسك إذا سئلت عن آية ما معناها أن تقول: والله لا أدري أراجعها إن شاء الله، ما معنى هذا الحديث ؟ والله لا أدري أراجعه إن شاء الله، فأنت عالم، هذه الموضوعية، وهذا التواضع العلمي، أما أن تجيب عن كل شيء بسرعة، وبلا تريّث، وبلا تَرَوّي فهذا من الجهل، ومن القول على الله ما لا تعلم ! ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا (32) ﴾
نحن لا نعلم يا رب إلا أن تعلّمنا، توجد في السيرة النبوية أشياء مخيفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام على علوّ قدره، وعِظَم شأنه، وقربه من الله، واستنارة قلبه، والوحيّ يتنزَّل عليه، جاءه أناسٌ من إحدى القبائل وطلبوا منه قُرَّاء للقرآن الكريم كي يعلّموا قومهم، أرسل معهم سبعين قارئاً فذبحوهم في الطريق، لِمَ لم يعلم ؟ معنى ذلك أن النبي لا يعلم إلا أن يُعلِّمَه الله، أي مخلوقٍ لا يعلم بذاته أبداً إلا أن يُعلِّمك الله عزَّ وجل، مع أن الوحي جاءه في موضوعاتٍ كثيرةٍ جداً وهي أقل شأناً من هذا، ولكن هذا درس، هو لا يعلم على علوّ قدره إلا أن يُعلِّمه الله، فقد يلقي الله في قلبك العلم وقد لا يُلقي فلا تعلم، فهذا الموقف الأديب: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا (32) ﴾
كن طبيعياً، سؤال فقهي، والله سأُراجعه، فتوى، دعني أُفكِّر فيها، هل تعلم ما معنى هذه الآية ؟ لا والله لا أعلم، لا أعلم أنت عالم، أما كلَّما سئِلت أجبت إجابة طائشة، فمعنى ذلك أنك لا تعلم، عوّد نفسك أن تقول: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا (32) ﴾
(( أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي البلاد شر ؟ فقال: لا أدري، فلما أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا جبريل، أي البلاد شر ؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي تبارك وتعالى، فانطلق جبريل، فمكث ما شاء الله ثم جاء، فقال: يا محمد، إنك سألتني أي البلاد شر، قلت: لا أدري، وإني سألت ربي تبارك وتعالى، فقلت: أي البلاد شر ؟ فقال: أسواقها.))
[الحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى والإمام أحمد عن جبير بن مطعم]
خيرها مساجدها، ففيها علم، ومعرفة، ووجهة إلى الله عزَّ وجل، وشرُّها أسواقها. الهامش الاجتهادي تُرِك للنبي ليكون هناك فرقٌ بين مقام الألوهية ومقام النبوّة:
النبي سيد الخلق وُضِع في ظروف يقول: لا أعلم، تُرِك له هامش اجتهادي طفيف جداً، فإذا أصاب فالوحي يؤيِّدُهُ، وإذا أخطأ يأتي الوحي ويصوِّب له، هذا الهامش الاجتهادي ليكون هناك فرقٌ بين مقام الألوهية ومقام النبوّة: ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
علم الله مطلق، وحكمته مطلقة، وعدلـه مطلق، ورحمته مطلقة، وإرادته مطلقة، فالاعتراض أو التساؤل في أفعال الله وفي علمه يحتاج إلى معالجة، وها قد عُولِج الملائكة بهذه القصَّة.
يمكن أن نستنبط من هذه الآيات الثلاث أن علم الإنسان بقدر صدقه في معرفة الحقيقة، ومن زادك في العلم زادك في القُرب، والعلم المقصود هو الذي أراده الله عزَّ وجل وليس العلم المُطْلَق.
ذكرت لكم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في المسجد، فرأى رجلاً تحلَّق الناس حوله، فسأل سؤال العارف: من هذا ؟ قالوا: هذا نسَّابة.
اللهمَّ إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، العلم الذي أراده الله هو العلم بالله، والعلم بأسمائه الحسنى، والعلم بصفاته الفضلى، والعلم بأمره ونهيه، حجم الإنسان من العلم بالله بحجم صدقه في طلب الحقيقة، لذلك فاق سيدنا آدم الملائكة ؛ والدليل أن الله عزَّ وجل قال: ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
النقاط الأساسية في هذا الدرس:
أيها الأخوة، العلم هو الذي يرفعك عند الله، والدليل: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
1ـ النقطة الأولى أن الذي يرفعك عند الله هو العلم:
تطبيقاً لهذا الدرس الذي يرفعك عند الله هو العلم، الآية الأولى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
هذا استفهام إنكاري، أي لا يستوون، فالناس رجلان ؛ يعلم ولا يعلم، وشتَّان بين من يعلم وبين من لا يعلم: (( الناس رجلان عالمٌ ومتعلم ولا خير فيما سواهما.))
[الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود]
يقول سيدنا علي: " الناس ثلاثة ؛ عالمٌ ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركنه الوثيق فاحذر يا كميل أن تكون منهم" ، ويقول سيدنا علي: " العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق ". ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
2ـ إن كنت طموحاً فاطلب العلم لا تطلب المال ولا الجاه:
إذا كنت طموحاً فاقرأ هذه الآية: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ﴾
( سورة طه )
لم يقل: زدني مالاً، لم يقل: زدني جاهاً: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ﴾
( سورة طه )
3ـ النقطة الثالثة يتفاوت العلماء في علمهم:
الشيء الثالث: يتفاوت العلماء في علمهم:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) ﴾
( سورة المجادلة )
4ـ النقطة الرابعة من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة:
الشيء الرابع: (( من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة.))
[الترمذي عن أبي هريرة]
حينما يأتي الإنسان من بيته ليتعلَّم كتاب الله، ليفهم تفسير آيات الله، هذا الطريق من بيتك إلى المسجد هو الطريق إلى الجنة، وطالب العلم يؤْثِر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً، " والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً "، و" يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهِل "، وحينما تتعلم اقرأ قوله تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) ﴾
( سورة يوسف )
حينما تتوسَّع في معرفة اختصاصٍ ما فاقرأ قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85) ﴾
( سورة الإسراء: آية " 85 " )
العالم الحقيقي متواضع لأنه كلَّما ازداد علماً ازداد شعوراً بعظمة الله فتضاءل في نفسه:
أبيّن من حين لآخر عظمة الله عزَّ وجل من خلال خلقه، أقول: طول لسان لهيب الشمس ستمئة ألف كيلو متر إلى مليون، مليون كيلو متر لسان اللهب ؟ ثم اطلعت على بحثٍ في الفلك فإذا هناك شمسٌ تزيد بحجمها عن شمسنا اثنين واثنين بالعشرة بليون مرَّة، ولسان لهبها مئة وخمسون سنة ضوئية: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85) ﴾
( سورة الإسراء: آية " 85 " )
اجتمع الناس حول عالم شاب مرة وانتفعوا بعلمه، فجاء رجل ليُصَغِّرَهُ، قال له: يا هذا هَذا الذي تقوله ما سمعناه، فقال له: وهل حصَّلت العلم كلَّه ؟ فأسقط في يده، قال له: لا، قال له: كم حصَّلت منه ؟ قال: بعض العلم، قال: هذا من الشطر الذي لا تعرفه.
" كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي "، العالم الحقيقي متواضع، لأنه كلَّما ازداد علماً ازداد شعوراً بعظمة الله عزَّ وجل، فتضاءل في نفسه.
أيها الأخوة، هذا درس لنا: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
والحمد لله رب العالمين
كرَّم الله الإنسان بالعلم لفضيلة
الشيخ محمد راتب النابلسي .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( كرَّم الله الإنسان بالعلم ))
مع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
أيها الأخوة الكرام، محور هذه الآيات أن آدم عليه السلام وذُرِّيّته مخلوقاتٌ متميِّزة قبلت حمل الأمانة، وحينما قبلت حمل الأمانة فُتِحت لها أبواب المعارف، فسيدنا آدم علَّمه الله، وحينما يعلّم الله الإنسان فإن هذا الشيء يصعب تصوره، الله عزَّ وجل علَّم النبي قال تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ﴾
( سورة النجم )
فضل علم النبي على علم أعلم علماء الأرض كفضل الله على خلقه، يتباهى الطالب أحياناً أنَّه تلميذ فلان، علَّمني فلان، علَّمني هذا الأستاذ الكبير، فكلَّما كان قدر المُعَلِّم كبيراً كان افتخار الطالب بمعلِّمه أكثر، فإذا كان المعلّم هو الله، فهذا الشيء يكاد لا يُصدَّق، لأن الله يعلّم الإنسان بطريقةٍ تعطيه كل شيء في أقلّ زمن، الطالب الآن يأتي ببعض الأحاديث الشريفة، يضبطها، ويشرحها، ويستنبط منها بعض الأحكام، ويقدِّم هذا البحث رسالة دكتوراه، تُناقش هذه الرسالة ويُعطى لقب دكتور، لماذا ؟ لأنه فهم بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين مقام النبي عليه الصلاة والسلام ؟ يا أيها الأمي حسبك رتبةٌ في العلم أن دانت لك العلماء
***
سبب جعل النبي عليه الصلاة والسلام أمياً:
أقف عند كلمة: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ (31) ﴾
كما أن الله علَّم آدم الأسماء علَّم النبي عليه الصلاة والسلام كل شيء، لماذا جعله أُمِّياً ؟ لأنه لو استقى من ثقافات عصره ثم جاءه وحيّ السماء لتداخلَ علم الأرض مع علم السماء، ولو كان الأمر كذلك لسأله أصحابه كل دقيقة، هل هذا الكلام من ثقافتك أم من وحي السماء ؟ فالله سبحانه وتعالى جعل وعاء النبي خالياً من كل ثقافةٍ أرضية، وجعله: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
( سورة النجم )
علّم الله آدم عليه السلام، كما أن الله تعالى علَّم نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام. ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ (31) ﴾
اختلف العلماء في هذه الكلمة، أولاً اختلفوا في آدم، لمَ سمِّي آدمُ آدماً ؟ قال: لأنه أُخِذَ من أديم الأرض ـ من تراب الأرض ـ وصنعه الله بيده، ونَفَخَ فيه من روحه، فهو المخلوق الأول. الإنسان مركّب من عقلٍ وشهوة:
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) ﴾
( سورة الإسراء )
الإنسان كما تعلمون رُكِّب من عقلٍ وشهوة، فيه قبضةٌ من تراب الأرض، وفيه نفخةٌ من روح الله، فإذا سَمَتْ نفخة الروح على تراب الأرض كان فوق الملائكة، وإذا سَمَتْ قبضة التراب على نفخة الله عزَّ وجل كان دون الحيوان، هو وحده يتذبذب بين أن يكون فوق الملائكة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) ﴾
( سورة البينة )
وبين أن يكون شَرَّ البرية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) ﴾
( سورة البينة )
الأنبياء يتعلَّمون بالوحيّ لكن المؤمنين يتعلَّمون بالقراءة والكتابة:
وضع الإنسان يتذبذب بين أن يكون فوق الملائكة المقرَّبين، وبين أن يكون في أسفل سافلين، فيه قبضةٌ من تراب الأرض ؛ يأكل ويشرب، ويشتهي النساء، ويشتهي أن يستريح، وأن يستمْتِع، هذا الخلود إلى الأرض، ويتمنى أن يعرف الله، وأن يكون مستقيماً على أمره، وأن يكون محبَّاً له، وأن ينشر الخير بين الخلائق، هذه نفخة الروح التي في كيانه، فيه نفخةٌ من روح الله، وفيه قبضةٌ من تراب الأرض، لذلك حينما قبِل الإنسان حمل الأمانة كان المخلوق الأول. ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72) ﴾
( سورة الأحزاب: آية " 72 " )
هو المخلوق الأول لمجرد أنه قبِل حمل الأمانة، لأنه المخلوق الأول سُخِّرت له السماوات والأرض جميعاً، في هذه الآيات إشاراتٌ لطيفة إلى أن مقام آدم هو المقام الأول، عرَّفه الله عزَّ وجل، إذاً آدم من أديم الأرض: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ (31) ﴾
تعليم الله عزَّ وجل متميّزٌ عن تعليم البشر، فحينما يعلّمك الله عزَّ وجل تغدو أعلم علماء الأرض، علَّم الله أنبياءه، علَّمهم بالوحيّ، أو كلَّمهم، أو قرَّبهم إليه، أما بنو البشر فيتعلَّمون من علم الأنبياء، نحن الأمية فينا صفة نقصٍ، لأنه لا سبيل لنا للتعلُّم إلا عن طريق علم الأنبياء، لا بدًّ أن نقرأ أحاديث رسول الله، لا بدَّ أن نقرأ القرآن الكريم، لا بدَّ أن نفهم تفسيره، فنحن نتعلَّم بالتعلُّم، يقول عليه الصلاة والسلام: (( إنما العلم بالتعلُّم ))
[الطبراني عن أبي الدرداء]
الأنبياء يتعلَّمون بالوحيّ، لكن المؤمنين يتعلَّمون بالقراءة والكتابة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: (( إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحِلم بالتحلّم ))
[الطبراني عن أبي الدرداء]
بعض التأويلات المحتملة للآية التالية:
قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
وقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ﴾
أما الأسماء التي وردت في هذه الآية فهناك اختلافٌ كبير بين المفسرين، يوجد عندنا اسم ومسمَّى، هذا منديل، فإن هذا مسمَّى، ومنديل اسم، ولا اسم بلا مسمّى، قال بعض المفسرين: " حينما خلق الله عز وجل المسميات كلَّها علَّم آدم أسماءها "، وكأن الله أراد من هذه الآية أن يبين أن لآدم طريقاً إلى الله يعلِّمه كلّ شيء، والإنسان ـ وهو ابن آدم ـ حينما يصدق في طلب شيء فالله عزَّ وجل يعطيه إيَّاه: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
وبعضهم قال: " علَّمه أسماء ذرِّيته جميعاً لأن كل ذرِّيته في ظهره " . وبعضهم قال: " علَّمه أسماء الملائكة ". وبعضهم قال: " علَّمه أسماء الله الحُسنى " ، فلك أن تختار من بين هذه التفسيرات ، إما أنه علَّمه أسماءه الحسنى وصفاته الفُضلى، أو علَّمه أسماء الملائكة، أو علَّمه أسماء ذرٍّيته جميعاً، أو علًّمه حقائق الكون، علَّمه المُسَمَّيات وأسماءها، هذه التأويلات المحتملة لهذه الكلمة: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان وجعله المخلوق الأول :
الملائكة مما أشفقوا ولم يحملوا الأمانة ؟
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72) ﴾
( سورة الأحزاب: آية " 72 " )
الملائكة مخلوقاتٌ عابدةٌ، منيبةٌ، متَّصلةٌ بالله عزَّ وجل، تُسبِّح الله دائماً، ولكنّها ليست مُكَلَّفة ـ ليس عندها تكليف ـ ليس عندها نجاح أو رسوب، فلاح أو سقوط، جنَّةٌ أو نار، مستقبلها مضمون لأنها لم تخاطر، لكن الإنسان قال: أنا لها، وحملها الإنسان، فالذي قَبِلَ المغامرة يفوق الذي أَشْفَقَ من هذه المغامرة فيما لو نجح، لذلك يتّضح من خلال هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان وجعله المخلوق الأول، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، بل إن العلماء يقولون: " المؤمن إذا عرف الله عزَّ وجل وأدَّى الأمانة التي أُنيطت به، وحقق الهدف الذي من أجله خُلِق فهو فوق الملائكة المقرَّبين ".
عند بعض العلماء بعض المقولات، الرسل من بني البشر أعظم من رسل الملائكة، والأولياء من بني البشر أعظم من أولياء الملائكة، ولكن إذا وازنَّا الملَك بمخلوقٍ شاردٍ عن الله عزَّ وجل فإن ذرَّةً من هذا المَلَك أفضل من مليار إنسان عاصٍ، أما حينما يرشد الإنسان، ويتَّصل بالله عزَّ وجل فهو فوق الملائكة المقرَّبين: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31) ﴾
مقام الإنسان يتذبذب بين أن يسبق الملائكة وبين أن يكون من أَحَط المخلوقات:
ماذا قالت الملائكة ؟ ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
إنَّ هذا المخلوق البشري إذا عرف الله وصل إلى مرتبةٍ لا تصل الملائكة إليها، مقامه يتذبذب بين أن يسبق الملائكة، وبين أن يكون من أَحَط المخلوقات، رجل خان جاره في زوجته أثناء سفره في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فبلغ النبي ذلك، وقد قتله كلبٌ، فقال عليه الصلاة والسلام: " خان صاحبه، وقتله الكلب، والكلب خيرٌ منه ".
شيء دقيق، أنت حينما تعرف الله، وتستقيم على أمره، وتسمو إليه فأنت في المرتبة الأولى من مخلوقات الأرض ؛ وحينما تخلد إلى الأرض وتتبع هواك وتُغلب فأنت دون كل المخلوقات، فهذه المرتبة تتلوّن وتتذبذب بين قمَّة المجد وبين حضيض السقوط، هكذا الإنسان إما أنه خير البرية، وإما أنه شَرُّ البرية، ومتاحٌ لك أن تكون من خير البرية، لأن هذه الشهوات التي غُلِبت بها رُسِمت لها قنواتٌ نظيفة تسري خلالها، فليس في الإسلام حِرْمان، ولكن في الإسلام انضباط، عملية ضبط، فأية شهوةٍ أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، بل إنني أقول لكم: إن استمتاع المؤمن بالحلال فيه متعةٌ وطمأنينةٌ وسعادةٌ تفوق بكثير متعة المنحرف العاصي بالحرام، شَتَّان بين الزواج والزنا، وشتَّان بين كسب المال الحلال وبين كسب المال الحرام، وشتَّان بين أن تعلو في الأرض بعملٍ صالح، أو بجريمةٍ فظيعة. الإنسان مخير ولأنه مخير فالنتائج متباينة:
أيها الأخوة الكرام، نحن أمام خيار مصيري، إما أن تكون المخلوق الأول، وإما أن يهبط الإنسان فيكون في أسفل سافلين، في الدرجة الدنيا: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (31) ﴾
أنتم يا ملائكتي الذين قلتم في أنفسكم: لعل هذا المخلوق يُفسِد، ويسفِكُ الدماء، ونحن نسبح الله عزَّ وجل، فقال الله عزَّ وجل: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الكمال في الجامعة لا أن ينجح كل الطُلاَّب، بل أن تأتي النتائج وفق المقدِّمات، حيث ينجح المتفوِّق، ويرسب الكسول، وهكذا الإنسان مخيّر، فإما أن تختار الحقيقة، وإما أن تختار الشهوة، إما أن تختار المصلحة، وإما أن تختار المبدأ، إما أن تختار الآخرة، وإما أن تختار الدنيا، أنت مخيّر، ولأنك مخيّر فالنتائج متباينة، إذا أَعْطَينا للطلاب حرية الاختيار في الدراسة أو عدمها ورسب مجموعة من الطلاب هذا لا يعني أن نغلق الجامعة، بل بالعكس نتابع افتتاح الجامعات ونقول: كلٌ يلقى نتائج عمله، فالطالب المجتهد يلقى نتائج عمله، والطالب الكسول يلقى نتائج عمله، أعطى الله عزَّ وجل الملائكة درساً لا يُنسَى، أنتم الذين قلتم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾
هذا آدم، وقد ورد عن الرسول الكريم قوله: (( آدم ومن دونه تحت لوائي ولا فخر.))
[ابن مردويه عن أنس]
آدم ومن دونه تحت لواء محمد عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، استنبط بعض العلماء من هذا الحديث أن هذا النبي الكريم ـ أبو البشر ـ يأتي في مقامه بعد مقام محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؛ آدم ومن دونه. الإنسان لتميّزه بقبول حمل الأمانة استحق أن يُكشَف له الغطاء فيعلم من الله ما لم يعلم غيره من الله:
قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ (31) ﴾
ذكرت قبل قليل أنه لك أن تفهم الأسماء أنها أسماء ذريّته جميعاً، أو أسماء الملائكة كلَّهم، أو أسماء المُسميات جميعاً، إما أنه علَّمه حقائق الوجود، أو علَّمه أسماء الملائكة، أو علَّمه أسماء ذريّته، أو علَّمه أسماءه الحسنى، على كلٍ هذا الإنسان لتميّزه بقبول حمل الأمانة استحق أن يُكشَف له الغطاء، فيعلم من الله ما لم يعلم غيره من الله: ﴿ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (31) ﴾
هذا الذي خلقته وجعلته خليفتي في الأرض هل عندكم شيء من علمه ؟ ﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ (31) ﴾
ماذا تعرفون من هذه الأسماء ؟ وهذا ينقلنا إلى موضوعٍ دقيق، الله عزَّ وجل قد يعطي الأدنى ما يفوق الأعلى، سيدنا موسى نبيٌّ كريم سئِل: مـن أعلم من في الأرض ؟ فقال: أنا، فلفـت ربنا عزَّ وجل نظره إلى شيءٍ لم يكن في الحُسبان، أعطى الله سيدنا الخضِر سرَّ الأمر التكليفي، فلمَّا ترافق سيدنا موسى مع سيدنا الخضر اعترض عليه، وإذا بالخضر عليه السلام يعطيه حقائق الأمور ويعطيه حِكَم أفعال الله عزَّ وجل، فإذا كان الله تعالى قد خصَّ موسى بالأمر التكليفي فقد خصَّ الخضر عليه السلام بالأمر التكويني، بسرِّ الأمر التكويني. الله عزَّ وجل طليق الإرادة يعطي من هو أدنى منك شيئاً يفوقك به:
يعطي الله عزَّ وجل الأدنى ما يفوق به الأعلى، وكلفت نظرٍ قال هدهد سيدنا سليمان: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ (22) ﴾
( سورة النمل: آية " 22 " )
سيدنا سليمان الذي آتاه الله مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، سيدنا سليمان الذي سخَّر الله له الريح، سيدنا سليمان الذي علَّمه الله لغة الطير: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً (19) ﴾
( سورة النمل )
قال له الهدهد: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) ﴾
هذا درس، فلا تقل: أنا أعلم من في الأرض، لا تقل: أنا متفوق في كذا، الله يغيِّر في لحظة، الله عزَّ وجل طليق الإرادة، يعطي من هو أدنى منك شيئاً يفوقك به، قيل: إن الإمام أبا حنيفة رأى مرة طفلاً يمشي في الطريق وأمامه حفرة فقال له: احذر يا غلام أن تسقط، فقال له الغلام: بل احذر أنت يا إمام أن تسقط، إني إن سقطت سقطتُ وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالم.
كان سيدنا عبد الله بن الزبير في المدينة مع بعض الغلمان فمرَّ سيدنا عمر، تفرَّق الأولاد إلا عبد الله بن الزبير بقي واقفاً في مكانه، فقال له سيدنا عمر: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ فقال له: " أيها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك والطريق يسعني ويسعك " ، فدائماً لا تقل: أنا، هناك دروس بليغة جداً في الحياة. حجم علم الإنسان بحجم صدقه في طلب الحقيقة:
أيها الأخوة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ (32) ﴾
أي أنَّ هذا الذي اعترضتم عليه، ظننتم أنكم أفضل منه، هذا الذي توهَّمتم أنه سيسفك الدماء، ويُفسِد في الأرض علمه أعلى من علمكم، لكن هناك سؤال: إنك أنت الذي علَّمته، فأنت الذي ميزته علينا ؟ الجواب: أن علم الإنسان بحسب صدقه، فكلَّما كان أكثر صدقاً في طلب الحقيقة كان علمه من الله عزَّ وجل أعمق وأشمل، فحجم علم الإنسان بحجم صدقه في طلب الحقيقة، لذلك يُعَدُّ النبي عليه الصلاة والسلام أعلمنا بالله عزَّ وجل، قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم: (( إني أعلَمكم بالله وأشَدُّكم له خشية ))
[متفق عليه عن عائشة]
أي أن العلم متعلق بالصدق، فكلَّما كنت أكثر صدقاً في طلب الحقيقة، كلَّما كنت أكثر صدقاً في معرفة الله كلَّما كنت أكثر علماً، فيبدو أن هذا النبي الكريم أبو البشر ـ سيدنا آدم ـ كان طلبه للمعرفة عالياً جداً، فعلَّمه الله ما لم يعلِّم الملائكة. كلمة (لا أدري) نصف العلم:
حينما نفهم الآية فهماً ساذجاً أن الله علَّمه، ثم قال: ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ (31) ﴾
لا تعلمون، إذاً هو أفضل منكم، هذا الشيء بهذا الشكل غير مقبول، أما علمه الذي فاق به الملائكة بسبب محبَّته لله، وصدقه في طلب الحقيقة، وإقباله على الله، فهناك شيء منه، تجد أخّوين، أحدهما تابع دراسته حتى الدكتوراه، والآخر قنع بابتدائية، أو بإعدادية، والأب واحد، والأم واحدة، هذا اختيار، فيبدو أن هذا النبي العظيم أبو الأنبياء أراد أن يكون في أعلى مرتبة منحه الله إياها، فلمَّا اعترضت الملائكة قال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا(32)﴾
لنا هنا وقفة متأنّية، أخواننا الكرام كما قال الإمام الشافعي: " كلّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " ، والإنسان المتعلّم أو طالب العلم الشرعي يجب أن يكون متواضعاً جداً وأن يُجْري على لسانه كلمة لا أدري، لا أدري نصف العلم، جاء وفد من المغرب إلى المشرق معهم أسئلة عديدة جداً، فالتقوا الإمام مالك ـ إمام دار الهجرة ـ عرضوا عليه مجموعة أسئلة فأجاب عن ثلثها، وأما الأسئلة الباقية فقال عنها: لا أدري، قالوا: يا الله الإمام مالك إمام دار الهجرة لا يدري ؟! قال لهم: قولوا لأهل المغرب الإمام مالك لا يدري.
عوّد نفسك أن تقول عن شيء لا تعلمه: واللهِ لا أعلم، إن قلت: لا أعلم فأنت عالم، أما هذا الذي يعلم كل شيء فهو لا يعلم شيئاً إنه كذَّاب، عَوِّد تلاميذك، عود أخوانك كلمة لا أعلم طبيعية جداً، وأنت في مكانك العلي لا تستحي أن تقول: لا أعلم، لأنك إذا قلت ما لا تعلم فقد اقترفت إثماً مبيناً، وردت المعاصي في كتاب الله بشكل تصاعدي ؛ الفحشاء، والمنكر، والإثم، والعدوان، والشرك، والكفر، وأعلى معصية هي: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾
( سورة البقرة )
النبي عليه الصلاة والسلام على علوّ قدره وعِظَم شأنه لا يعلم إلا أن يُعلِّمه الله:
يقول الإمام الغزالي: " العوام لأن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ". وَطِّن نفسك إذا سئلت عن آية ما معناها أن تقول: والله لا أدري أراجعها إن شاء الله، ما معنى هذا الحديث ؟ والله لا أدري أراجعه إن شاء الله، فأنت عالم، هذه الموضوعية، وهذا التواضع العلمي، أما أن تجيب عن كل شيء بسرعة، وبلا تريّث، وبلا تَرَوّي فهذا من الجهل، ومن القول على الله ما لا تعلم ! ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا (32) ﴾
نحن لا نعلم يا رب إلا أن تعلّمنا، توجد في السيرة النبوية أشياء مخيفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام على علوّ قدره، وعِظَم شأنه، وقربه من الله، واستنارة قلبه، والوحيّ يتنزَّل عليه، جاءه أناسٌ من إحدى القبائل وطلبوا منه قُرَّاء للقرآن الكريم كي يعلّموا قومهم، أرسل معهم سبعين قارئاً فذبحوهم في الطريق، لِمَ لم يعلم ؟ معنى ذلك أن النبي لا يعلم إلا أن يُعلِّمَه الله، أي مخلوقٍ لا يعلم بذاته أبداً إلا أن يُعلِّمك الله عزَّ وجل، مع أن الوحي جاءه في موضوعاتٍ كثيرةٍ جداً وهي أقل شأناً من هذا، ولكن هذا درس، هو لا يعلم على علوّ قدره إلا أن يُعلِّمه الله، فقد يلقي الله في قلبك العلم وقد لا يُلقي فلا تعلم، فهذا الموقف الأديب: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا (32) ﴾
كن طبيعياً، سؤال فقهي، والله سأُراجعه، فتوى، دعني أُفكِّر فيها، هل تعلم ما معنى هذه الآية ؟ لا والله لا أعلم، لا أعلم أنت عالم، أما كلَّما سئِلت أجبت إجابة طائشة، فمعنى ذلك أنك لا تعلم، عوّد نفسك أن تقول: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا (32) ﴾
(( أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي البلاد شر ؟ فقال: لا أدري، فلما أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا جبريل، أي البلاد شر ؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي تبارك وتعالى، فانطلق جبريل، فمكث ما شاء الله ثم جاء، فقال: يا محمد، إنك سألتني أي البلاد شر، قلت: لا أدري، وإني سألت ربي تبارك وتعالى، فقلت: أي البلاد شر ؟ فقال: أسواقها.))
[الحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى والإمام أحمد عن جبير بن مطعم]
خيرها مساجدها، ففيها علم، ومعرفة، ووجهة إلى الله عزَّ وجل، وشرُّها أسواقها. الهامش الاجتهادي تُرِك للنبي ليكون هناك فرقٌ بين مقام الألوهية ومقام النبوّة:
النبي سيد الخلق وُضِع في ظروف يقول: لا أعلم، تُرِك له هامش اجتهادي طفيف جداً، فإذا أصاب فالوحي يؤيِّدُهُ، وإذا أخطأ يأتي الوحي ويصوِّب له، هذا الهامش الاجتهادي ليكون هناك فرقٌ بين مقام الألوهية ومقام النبوّة: ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
علم الله مطلق، وحكمته مطلقة، وعدلـه مطلق، ورحمته مطلقة، وإرادته مطلقة، فالاعتراض أو التساؤل في أفعال الله وفي علمه يحتاج إلى معالجة، وها قد عُولِج الملائكة بهذه القصَّة.
يمكن أن نستنبط من هذه الآيات الثلاث أن علم الإنسان بقدر صدقه في معرفة الحقيقة، ومن زادك في العلم زادك في القُرب، والعلم المقصود هو الذي أراده الله عزَّ وجل وليس العلم المُطْلَق.
ذكرت لكم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في المسجد، فرأى رجلاً تحلَّق الناس حوله، فسأل سؤال العارف: من هذا ؟ قالوا: هذا نسَّابة.
اللهمَّ إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، العلم الذي أراده الله هو العلم بالله، والعلم بأسمائه الحسنى، والعلم بصفاته الفضلى، والعلم بأمره ونهيه، حجم الإنسان من العلم بالله بحجم صدقه في طلب الحقيقة، لذلك فاق سيدنا آدم الملائكة ؛ والدليل أن الله عزَّ وجل قال: ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
النقاط الأساسية في هذا الدرس:
أيها الأخوة، العلم هو الذي يرفعك عند الله، والدليل: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
1ـ النقطة الأولى أن الذي يرفعك عند الله هو العلم:
تطبيقاً لهذا الدرس الذي يرفعك عند الله هو العلم، الآية الأولى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
هذا استفهام إنكاري، أي لا يستوون، فالناس رجلان ؛ يعلم ولا يعلم، وشتَّان بين من يعلم وبين من لا يعلم: (( الناس رجلان عالمٌ ومتعلم ولا خير فيما سواهما.))
[الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود]
يقول سيدنا علي: " الناس ثلاثة ؛ عالمٌ ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركنه الوثيق فاحذر يا كميل أن تكون منهم" ، ويقول سيدنا علي: " العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق ". ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
2ـ إن كنت طموحاً فاطلب العلم لا تطلب المال ولا الجاه:
إذا كنت طموحاً فاقرأ هذه الآية: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ﴾
( سورة طه )
لم يقل: زدني مالاً، لم يقل: زدني جاهاً: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ﴾
( سورة طه )
3ـ النقطة الثالثة يتفاوت العلماء في علمهم:
الشيء الثالث: يتفاوت العلماء في علمهم:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) ﴾
( سورة المجادلة )
4ـ النقطة الرابعة من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة:
الشيء الرابع: (( من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة.))
[الترمذي عن أبي هريرة]
حينما يأتي الإنسان من بيته ليتعلَّم كتاب الله، ليفهم تفسير آيات الله، هذا الطريق من بيتك إلى المسجد هو الطريق إلى الجنة، وطالب العلم يؤْثِر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً، " والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً "، و" يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهِل "، وحينما تتعلم اقرأ قوله تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) ﴾
( سورة يوسف )
حينما تتوسَّع في معرفة اختصاصٍ ما فاقرأ قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85) ﴾
( سورة الإسراء: آية " 85 " )
العالم الحقيقي متواضع لأنه كلَّما ازداد علماً ازداد شعوراً بعظمة الله فتضاءل في نفسه:
أبيّن من حين لآخر عظمة الله عزَّ وجل من خلال خلقه، أقول: طول لسان لهيب الشمس ستمئة ألف كيلو متر إلى مليون، مليون كيلو متر لسان اللهب ؟ ثم اطلعت على بحثٍ في الفلك فإذا هناك شمسٌ تزيد بحجمها عن شمسنا اثنين واثنين بالعشرة بليون مرَّة، ولسان لهبها مئة وخمسون سنة ضوئية: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85) ﴾
( سورة الإسراء: آية " 85 " )
اجتمع الناس حول عالم شاب مرة وانتفعوا بعلمه، فجاء رجل ليُصَغِّرَهُ، قال له: يا هذا هَذا الذي تقوله ما سمعناه، فقال له: وهل حصَّلت العلم كلَّه ؟ فأسقط في يده، قال له: لا، قال له: كم حصَّلت منه ؟ قال: بعض العلم، قال: هذا من الشطر الذي لا تعرفه.
" كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي "، العالم الحقيقي متواضع، لأنه كلَّما ازداد علماً ازداد شعوراً بعظمة الله عزَّ وجل، فتضاءل في نفسه.
أيها الأخوة، هذا درس لنا: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ﴾
والحمد لله رب العالمين
كرَّم الله الإنسان بالعلم لفضيلة
الشيخ محمد راتب النابلسي .